أبي أوصاني بذلك | شهادة

غزّيّات يبكين ضحايا القصف الإسرائيليّ، خان يونس، 01/12/2023 | عبد زقّوت.

 

قُطِع الإنترنت، قُطِعْنا عن التواصل مع العالم، الساعة الآن الثامنة وعشرون دقيقة مساء، الرابع من كانون الأوّل (ديسمبر) 2023. أكثر من مئة حزام ناريّ في أقلّ من نصف ساعة على مدينة خان يونس - حيّ الأمل، حيث أسكن، وعدد من الأحياء الأخرى. ومَنْ لا يعرف الحزام، فهو دفعة كبيرة من الصواريخ تطلقها الطائرات الحربيّة في مكان واحد، وفي ذات اللحظة، يمتدّ من دقيقة إلى عشر دقائق، بارود الصواريخ في كلّ ذرّة من الهواء، في كلّ أنف، وعلى كلّ قلب، الأصوات والصراخ العجيب... العجيب جدًّا في كلّ مكان وزاوية وحدب، صوت الإسعافات يتداخل والصراخ... لك أن تتخيّل هذا التداخل، ومتروكه في النفس وعليها.

قنابل الإضاءة تصبغ السماء بالبرتقاليّ؛ كأنّها تخبر الضحايا أنّ السكّين لا تقطع أعناقًا بل تقطّع كعكة الموت بتؤدة... تؤدة يُسْكِتُها غُلّ محرّك الطائرة وهو يشتدّ أكثر فأكثر. الفوسفور الأبيض يخنقنا جميعًا، الاتّصالات كلّها مشغولة، وقد ذهب أخي ليملأ لنا ماء؛ فتأخّر عن موعد عودته خمس دقائق، خلالها حوّلت أمّي حياتي جحيمًا، توتّرًا وخوفًا عليه... رغم أنّ أخي ردّ على اتّصالي، وقال لي "أنا بخير"، لكنّها الأمّ وقلبها... المجنون.

هل ثمّة ما يستحقّ كلّ ما يحدث؟ بعد السؤال، يتوضّأ الغارقون في رماديّة اللحظة بماء أحلام الخلاص. سيناريو تلو سيناريو، احتمال وراء احتمال، تخيّل يتبعه تخيّل... لحياتهم إن نَجَوْا، لحياتهم إن تركتهم اللحظة يخبرون بالقصّة بعد الإبادة.

كلّ شيء يهتزّ: البيت، النوافذ، الأبواب، قلوبنا، عقولنا. كلّ شيء خائف، مرتعد، مرعوب. القلوب ترتجف، والعيون مفتوحة على مصراعيها؛ كأنّ وحشًا مفترسًا يقابلها فاغرًا فاه. أمّي خائفة، أمّي الّتي تتحوّل إلى طفل منزوع الحلوى في وقت كهذا، أمّي خائفة، أختي خائفة، الكون خائف... وكلّي عاجز عن احتواء خوفهم جميعًا. التعاويذ تخترق الأسقف كالصواريخ، وجدير بي أن أذكر أنّ كلّ شيء يقبل أن يكون حقيقيًّا قبولًا لا شكّ في كماله في لحظات كهذه؛ كالقوّة مثلًا، الضعف، الحبّ، الكراهية، الغضب، مجمل المشاعر ربّما. ولا يعود ذلك لرغبة دفينة مفادها أنّنا نريد أن نكون حقيقيّين مرّة في العمر؛ بل هو الموت يجلس بيننا، يسبّح معنا ويستعيذ، ومثلنا يبتهل... شأننا شأنه في كلّ شيء، فتبادر عقولنا الباطنة بإبداء الاحترام لهذا الضيف الاستثنائيّ والثقيل، الخفيف الّذي يأتي مفاجأة ودون استئذان.

كلّ شيء حقيقيّ إلّا محاولاتي الحطّ من شأن اللحظة لتخفيف توتّر أمّي، أنا الخائف أكثر منها، لكنّي الأكثر قدرة على كبح جماح التعبير عن هذا الخوف، التعبير بصيغته العفويّة كما يحدث معها، وكما يفعل بكاؤها والسواد المفاجئ على سواحل عينيها، هذا السواد الّذي بمنزلة جرس مفاده أنّها وصلت ذروة الخوف والقلق، فلا أحد يفهم البطن كالّذي خرج منه إلى العالم.

يبادر مَنْ يعيش في عمق هذه اللحظة سؤال بارد، بارد إلى حدّ السخونة، دريس الشكل، مشبوه ومشوَّه، يأتي كما تأتي القصيدة شاعرًا تركته الأشياء على ضفّة انتظار أبديّ: هل ثمّة ما يستحقّ كلّ ما يحدث؟ بعد السؤال، يتوضّأ الغارقون في رماديّة اللحظة بماء أحلام الخلاص. سيناريو تلو سيناريو، احتمال وراء احتمال، تخيّل يتبعه تخيّل... لحياتهم إن نَجَوْا، لحياتهم إن تركتهم اللحظة يخبرون بالقصّة بعد الإبادة. كلّ هذه السيناريوهات والاحتمالات والتخيّلات تنطق نفسها مِنْ أفواه ذبحها السأم ووشوشات تهدئة الروع... محاولة تفريغ، محاولة لليّ عنق اللحظة، خنقِها؛ لتسكت عن إرهابهم قليلًا، لو قليلًا... وتحدث خلال الاجتماع ببيت الدرج؛ كأنّ بيت الدرج ملجأ، وكأنّه لا يماثل الصالة والغرف في نسبة الموت.

أرأيتَ يا مَنْ ترى حجم كراهة الوقيعة للحظتنا الحزينة؟ يا الله! ما أعجزنا! ما أعجزنا ونحن نذوّب أسماءنا المفردة في الجماعة؛ ليتّحد خوفنا فيتفرّق دمه علينا مثل حبر فائر! وتسكُننا أو تسكِّننا ربّما فكرة أنّنا لن نُساق إلى المذبح بمفردنا، وأنّ آخرين سيؤنسون حفيفنا الهادر مثلما تؤنس المدافع كلّ ثانية صمتٍ هنا. يا الله! ما أعجزنا! ما أعمق مظلمتنا! ما أبعد النجاة عنّا! استعنتُ ببساطة أهل البيت عليهم؛ لأقنعهم أنّ الجنون الداعر الّذي يحدث خارج البيت، ونرى ضوءه من النوافذ ليس جديدًا، وليس مخيفًا... رغم أنّ الحادث عَكْسُ ما أحاول إقناعهم به تمامًا، ولكنّي أريدهم أن يغفوا... لأنفرد بالذعر مستوليًا على حصّتهم منه؛ لأنّ أبي أوصاني بذلك، فأنا الابن الأكبر، ومَنْ يحمل المسؤوليّة في غيابه القسريّ. هدهدتهم شيئًا فشيئًا، تارة بسخرية يفتعلها لساني وتعابير وجهي الّتي تناقض داخلي المرتعش تمامًا، وتارة بتشتيت انتباههم عن أصوات المدافع والطائرات والزوارق؛ من خلال الحديث معهم في أيّ موضوع لا يشبه الحرب... حتّى ناموا.

نامت أمّي الخائفة وبيدها رداء الصلاة كطفل تعب من اللعب؛ فنام محتضنًا دميته، وتنام بهذه الطريقة عندما تشعر بخطر محبوك كالخطر الّذي يسكننا كلّنا في هذه اللحظة، وبطريقة لا تشبه طرق تجسيد الشعور بالخطر؛ الطرق الآثمة والمعهودة والشرهة ربّما... كسلوك يعكس حفنة صدمات راكمها هذا العمر المتعب والحزين والنازف... تلمّع صدمتَها الحرب، تجدّدها تجديدًا فاحشًا وغير مستحٍ.

نام أهل البيت، وبقيتُ مستيقظًا منصتًا، بخشوع، لهذا الكمّ من الانفجارات الّتي تحدث في كلّ مكان وكلّ ثانية، هذا الكمّ من الرعب الّذي لم أشهد له مثيلًا في حياتي، هذا الكمّ من سعار الإنسان وقذارته وغلّه.

نامت أمّي الخائفة وبيدها رداء الصلاة كطفل تعب من اللعب؛ فنام محتضنًا دميته، وتنام بهذه الطريقة عندما تشعر بخطر محبوك كالخطر الّذي يسكننا كلّنا في هذه اللحظة، وبطريقة لا تشبه طرق تجسيد الشعور بالخطر...

قرّرت الكتابة قَصاصًا مفتعلًا للمهزومين من الحياة والنصيب الحزين، قلت في نفسي: أأكتب وصيّتي؟ فخفت الفأل، وعدلت عن ذلك طامعًا أن تسمع الحياة صوت ندائي لها، وهي البعيدة كلّ البعد الآن، وبكلّ الحجج والبراهين الّتي تؤكّد ذلك.

حبيبتي أيّتها الحياة، عشتك كلّ الّذي عشتك متخفّفًا منك جاهلًا إيّاك، ولم أكُ أعلم بتوغّلك هذا في نفسي كما يتوغّل الموت الآن في كلّ ذرّة من ذرّات الزمكان. كلّ الكلمات لا تكفي للشرح، وقد تبدو هذه العبارة مهترئة أمام واقع هستيريّ كالّذي أريد شرح انعكاسه على مشاعري.

كلّ شيء لا يشبه كلّ شيء: اللغة، والصوت والصمت، والليل، والرغبة، والنجاة، والحياة، والموت. كلّ شيء يجهل كلّ شيء، كلّ شيء ينكر كلّ شيء. وفي الصدر تواريخ كلّ بلاد ظُلِمَت في تاريخ الإنسان، كلّ خوف عاشته، وكلّ فضيحة، وكلّ انتهاك لحرمة بيت وقلب وصرح وكون وضوء؛ تجهله أواخر الأنفاق المظلمة الطويلة والباردة.

إلى أين تذهب اللحظة؟ هذا سؤال الهاجس، سؤال الملاحقة، سؤال مَنْ تطوف زمنيّات كثيرة حوله كطوافّ السائلين حول كعبة مَن يسألونه... ينمو السؤال رويدًا، يكتنز أكثر، يتّحد معنا وفينا، فيصير: إلى أين نذهب؟ إلى أين؟ والجهات كلّها مسوّرة بسور من وحشيّة الإنسان ومجونه وفحشه وحضارته المسمومة.

وإن كنتُ من أهل الرماد الّذين يخشون الأجوبة، ويخافون منطقها المشبوه، إلّا أنّ إيمانًا نفخته دقّة الله المطلقة في تاريخ خارطتي كما نُفِخ في روح العذراء، فتمثّل لها بشرًا سويًّا، إيمانًا يسحبني من سرّي نحو جواب واحد ووحيد كوحدتنا الطويلة في وجه الريح والملحمة... اذهبوا إلى صانعهم وصانعكم وصانع السؤال والإجابة... فمَنْ دخل إلى المحراب فهو آمن، ومَنْ بكى في الظلمة بين يديه مناجيًا في هذا المكان القصيّ... فهو آمن. وهزّوا بجذع الصلاة تُساقِطْ عليكم أملًا جَنِيًّا.

الصلاة والبكاء، الصلاة والبكاء فحسب.

 

23:11، 16/12/2023.

 


 

هاشم شلولة

 

 

 

كاتب وشاعر فلسطينيّ يقيم في قطاع غزّة. له ثلاث مجموعات شعريّة: «برقيّات لآلة فاكس معطّلة» (دار الكلمة)، «سيأكل الذئب مَنْ ينتبه» (دار رواشن، 2021)، و«ماذا لو عرفوا أنّنا غرباء» (دار رواشن).